الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} جملة {سأُرهقه صعوداً} معترضة بين {إنه كان لآياتنا عنيداً} [المدثر: 16] وبين {إنه فكر وقدَّر}، قصد بهذا الاعتراض تعجيل الوعيد له مسَاءَة له وتعجيلُ المسرة للنبيء صلى الله عليه وسلم وجملة {إنه فكَّر وقدَّر} مبيِّنة لجملة {إنه كان لآياتنا عنيداً فهي تكملة وتبيين لها. والإرهاق: الإِتعاب وتحميل ما لا يطاق، وفعله رهِق كفرِح، قال تعالى: {ولا ترهقني من أمري عسراً} في سورة الكهف (73). والصَّعود: العقبة الشديدة التَّصعد الشاقة على الماشي وهي فَعول مبالغة من صَعِد، فإن العقبة صَعْدة، فإذا كانت عقبة أشد تصعداً من العقبات المعتادة قيل لها: صَعُود. وكأنَّ أصل هذا الوصف أن العقبة وُصفت بأنها صاعدة على طريقة المجاز العقلي ثم جعل ذلك الوصف اسمَ جنس لها. وقوله: {سأرهقه صعوداً} تمثيل لضد الحالة المجملة في قوله: {ومَهَّدت له تمهيداً} [المدثر: 14]، أي سينقلب حاله من حال راحة وتنعم إلى حالة سُوأى في الدنيا ثم إلى العذاب الأليم في الآخرة، وكل ذلك إرهاق له. قيل: إنه طال به النزع فكانت تتصاعد نفسه ثم لا يموت وقد جعل له من عذاب النار ما أسفر عنه عذاب الدنيا. وقد وُزع وعيده على ما تقتضيه أعماله فإنه لما ذُكر عناده وهو من مقاصِدهِ السيئة الناشئة عن محافظته على رئاسته وعن حسده النبي صلى الله عليه وسلم وذلك من الأغراض الدنيوية عقّب بوعيده بما يشمل عذاب الدنيا ابتداء. ولما ذُكر طعنه في القرآن بقوله: {إنْ هذا إلاّ سحر يؤثر} وأنكر أنه وحي من الله بقوله: {إن هذا إلاّ قول البشر} أُردف بذكر عذاب الآخرة بقوله: {سأُصليه سَقر} [المدثر: 26]. وعن النبي صلى الله عليه وسلم رأن صَعوداً جبل في جهنم يتصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي فيه كذلك أبداً»، رواه الترمذي وأحمد عن أبي سعيد الخدري. وقال الترمذي: هو حديث غريب. فجعل الله صفة صعود علَماً على ذلك الجبل في جهنم. وهذا تفسير بأعظم ما دل عليه قوله تعالى: {سأرهقه صعوداً. وجملة إنه فكر وقدر} إلى آخرها بدل من جملة {إنه كان لآياتنا عنيداً} [المدثر: 16] بدل اشتمال. وقد وصف حاله في تردده وتأمله بأبلغ وصف. فابتدئ بذكر تفكيره في الرأي الذي سيصدر عنه وتقديره. ومعنى {فكّر} أعمل فكره وكرّر نظر رأيه ليبتكر عذراً يموهه ويروّجه على الدهماء في وصف القرآن بوصف كلام الناس ليزيل منهم اعتقاد أنه وحي أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم و {قَدَّر} جعل قَدْراً لما يخطر بخاطره أن يصف به القرآن ليعرضه على ما يناسب ما يُنحله القرآنَ من أنواع كلام البشر أو ما يَسِم به النبي صلى الله عليه وسلم من الناس المخالفةِ أحوالهم للأحوال المعتادة في الناس مثال ذلك أن يقول في نفسه، نقول: محمد مجنون، ثم يقول: المجنون يُخنق ويتخالج ويوسوس وليس محمد كذلك،، ثم يقول في نفسه: هو شاعر، فيقول في نفسه: لقد عرفتُ الشّعر وسمعت كلام الشّعراء فما يشبه كلام محمّد كلام الشّاعر، ثم يقول في نفسه: كاهن، فيقول في نفسه: ما كلامه بزمزمة كاهن ولا بسجعه، ثم يقول في نفسه: نقول هو ساحر فإن السحر يفرق بين المرء وذويه ومحمد يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فقال للناس: نقول إنه ساحر. فهذا معنى {قَدَّر}. وقوله: {فقُتل كيف قدّر} كلام معترض بين {فكّر وقدّر} وبين {ثم نظر} وهو إنشاء شتم مفرع على الإِخبار عنه بأنه فكر وقدّر لأن الذي ذكر يوجب الغضب عليه. فالفاء لتفريع ذمه عن سيّئ فعله ومثله في الاعتراض قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً يوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر} [النحل: 43، 44]. والتفريع لا ينافي الاعتراض لأن الاعتراض وضع الكلام بين كلامين متصلين مع قطع النظر عما تألف منه الكلام المعترض فإن ذلك يجري على ما يتطلبه معناه. والداعي إلى الاعتراض هو التعجيل بفائدة الكلام للاهتمام بها. ومن زعموا أن الاعتراض لا يكون بالفاء فقد توهموا. و {قُتِل}: دعاء عليه بأن يقتله قَاتل، أي دعاء عليه بتعجيل مَوته لأن حياته حياة سيئة. وهذا الدعاء مستعمل في التعجيب من ماله والرثاءِ له كقوله: {قاتلهم الله} [التوبة: 30] وقولهم: عَدِمْتُك، وثَكلتْه أُمُّه، وقد يستعمل مثله في التعجيب من حسن الحال يقال: قاتله الله ما أشجعه. وجعله الزمخشري كناية عن كونه بلغ مبلغاً يحسده عليه المتكلم حتى يتمنى له الموت. وأنا أحسب أن معنى الحسد غير ملحوظ وإنما ذلك مجرد اقتصار على ما في تلك الكلمة من التعجب أو التعجيب لأنها صارت في ذلك كالأمثال. والمقام هنا متعين للكناية عن سوء حاله لأن ما قَدره ليس مما يَغتبط ذوو الألباب على إصابته إذ هو قد ناقض قوله ابتداء إذ قال: ما هو بعَقْدِ السحرة ولا نفثهم وبَعد أن فكّر قال: {إن هذا إلاّ سحر يؤثر} فناقض نفسه. وقولُه: {ثم قُتل كيف قدّر} تأكيد لنظيره المفرّع بالفاء. والعطف ب {ثم} يفيد أن جملتها أرقى رتبة من التي قبلها فِي الغرض المسوق له الكلام. فإذا كان المعطوف بها عين المعطوف عليه أفادت أن معنى المعطوف عليه ذُو درجات متفاوتة مع أن التأكيد يكسب الكلام قوة. وهذا كقوله: {كَلاَّ سيعلمون ثم كلا سيعلمون} [النبأ: 4، 5]. و {كَيف قدّر} في الموضعين متحد المعنى وهو اسم استفهام دال على الحالة التي يبينها متعلِّق {كيف}. والاستفهام موجه إلى سامع غير معيّن يستفهم المتكلم سامعه استفهاماً عن حالة تقديره، وهو استفهام مستعمل في التعجيب المشوب بالإِنكار على وجه المجاز المرسل. و {كيف} في محل نصب على الحال مقدمة على صاحبها لأن لها الصدر وعاملها {قَدَّر}. وقوله: {ثم نظر ثم عبَس وبَسَر ثم أدبر واستكبر} عطف على {وقدّر} وهي ارتقاء متواللٍ فيما اقتضى التعجيب من حاله والإِنكار عليه. فالتراخي تراخي رتبة لا تراخي زمننٍ لأن نظره وعُبُوسه وبَسَره وإِدباره واستكباره مقارنة لتفكيره وتقديره. والنظر هنا: نظر العين ليكون زائداً على ما أفاده {فكَّر وقدَّر}. والمعنى: نظر في وجوه الحاضرين يستخرج آراءهم في انتحال ما يصفون به القرآن. و {عبس}: قطَّب وجهه لمَّا استعصى عليه ما يصف به القرآن ولم يجد مغمَزاً مقبولاً. و {بسَر}: معناه كلَح وجهُه وتغيَّر لونه خوفاً وكمداً حين لم يجد ما يشفي غليله من مطعن في القرآن لا ترده العقول، قال تعالى: {ووجوه يومئذٍ باسرة تظنّ أن يفعل بها فاقرة} في سورة [القيامة: 24، 25]. والإِدبار: هنا يجوز أن يكون مستعاراً لتغيير التفكير الذي كان يفكره ويقدّره يَأساً من أن يجد ما فكر في انتحاله فانصرف إلى الاستكبار والأنفة من أن يشهد للقرآن بما فيه من كمال اللفظ والمعنى. ويجوز أن يكون مستعاراً لزيادة إعراضه عن تصديق النبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {ثم أدبر يسعى حكاية عن فرعون} في سورة النازعات (22). وصفت أشكاله التي تشكَّل بها لما أجهد نفسه لاستنباط ما يصف به القرآن، وذلك تهكم بالوليد. وصيغة الحصر في قوله: إِنْ هذا إلاّ سحر يؤثر} مشعرة بأن استقراء أحوال القرآن بعد السَبر والتقسيم أنتج له أنه من قبيل السحر، فهو قصر تعيين لأحد الأقوال التي جالت في نفسه لأنه قال: ما هو بكلام شاعر ولا بكلام كاهن ولا بكلام مجنون، كما تقدم في خبره. ووصَف هذا السحر بأنه مأثُور، أي مروي عن الأقدمين، يقول هذا ليدفع به اعتراضاً يرد عليه أن أقوال السحرة وأعمالهم ليست مماثلة للقرآن ولا لأحوال الرسول فزعم أنه أقوال سحرية غير مألوفة. وجملة {إنْ هذا إلاّ قول البشر} بدل اشتمال من جملة {إن هذا إلاّ سحر يؤثر} بأن السحر يكون أقوالاً وأفعالاً فهذا من السحر القولي. وهذه الجملة بمنزلة النتيجة لما تقدم، لأن مقصوده من ذلك كله أنّ القرآن ليس وحياً من الله. وعطف قوله: {فقال} بالفاء لأنّ هذه المقالة لما خطرت بباله بعد اكتداد فكره لم يتمالك أن نطق بها فكان نطقه بها حقيقاً بأن يعطف بحرف التعقيب.
{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)} جملة {سأُصليه سقر} مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله: {إنه فكّر وقدّر} [المدثر: 18] إلى آخر الآيات فذكر وعيده بعذاب الآخرة. ويجوز أن تكون بدلاً من جملة {سأرهق صعوراً}. والإِصلاء: جعل الشيء صالياً، أي مباشراً حرَّ النار. وفعل صَلِيَ يطلق على إحساس حرارة النار، فيكون لأجل التدَفّئ كقول الحارث بن حِلزة: فتنورتَ نارها من بعيد *** بخزازَى أيَّانَ منكَ الصلاء أي أنت بعيد من التدفئ بها وكما قال حُمَيد بن ثَوْر: لا تصطلي النارَ إلاّ مِجْمَرا أرِجَا *** قد كَسَّرت من يَلْنَجُوجٍ له وَقَصَا ويطلق على الاحتراق بالنار قال تعالى: {سَيصلَى ناراً ذات لهب} في سورة أبي لهب (3) وقال: {فأنذرتكم ناراً تلظَّى لا يصلاَها إلاّ الأشقى} في سورة الليل (14، 15)، وقال: وسيَصلون سعيراً في سورة النساء (10)، والأكثر إذا ذكر لفعل هذه المادة مفعول ثان من أسماء النار أن يكون الفعل بمعنى الإِحراق كقوله تعالى: {فسوف نُصليه ناراً} في سورة النساءِ (30). ومنه قوله هنا سأُصليه سقر. وسقر: علَم لطبقة من جهنم، عن ابن عباس: أنه الطبق السّادس من جهنم. قال ابن عطية: سقر هو الدرك السادس من جهنم على ما روي ا ه. واقتصر عليه ابنُ عطية. وجرى كلام جمهور المفسرين بما يقتضي أنهم يفسّرون سقر بما يرادف جهنم. وسقر ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث لأنه اسم بُقعة من جهنم أو اسم جهنم وقد جرى ضمير سقر على التأنيث في قوله تعالى: لا تُبقي} إلى قوله: {عليها تسعة عشر.} وقيل سقر معرَّب نقله في «الإِتقان» عن الجواليقي ولم يذكر الكلمة المعرّبة ولا من أية لغة هو. و {ما أدراك ما سقر} جملة حالية من {سقر}، أي سقر التي حالها لا ينبئك به مُنبئ وهذا تهويل لحالها. و {ما سقر} في محل مبتدإ وأصله سقر مَّا، أي ما هي، فقدّم {ما} لأنه اسم استفهام وله الصدارة. فإن {ما} الأولى استفهامية. والمعنى: أيُّ شيء يدريك، أي يعلمك. و {ما} الثانية استفهامية في محل رفع خبر عن {سقر}. وجملة {لا تبقي} بدل اشتمال من التهويل الذي أفادته جملة {وما أدراك ما سَقر،} فإن من أهوالها أنها تهلك كل من يصلاها. والجملة خبر ثان عن سقر. وحذف مفعول {تبقي} لقصد العموم، أي لا تبقي منهم أحداً أو لا تبقي من أجزائهم شيئاً. وجملة {ولا تذر} عطف على {لا تبقي} فهي في معنى الحال، ومعنى {لا تذر،} أي لا تترك من يلقَى فيها، أي لا تتركه غير مصلي بعذابها. وهذه كناية عن إعادة حياته بعد إهلاكه كما قال تعالى: {كلما نَضِجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب} [النساء: 56]. و {لوّاحة}: خبر ثالث عن {سقر}. و{لوّاحة} فعَّالة، من اللّوح وهو تغيير الذات من ألممٍ ونحوه، وقال الشاعر، وهو من شواهد «الكشاف» ولم أقف على قائله: تقول ما لاحكَ يا مُسافِرْ *** يا ابنة عمي لاحني الهَواجِرْ والبشر: يكون جمع بشرة، وهي جلد الإِنسان، أي تغير ألوان الجلود فتجعلها سوداً، ويكون اسم جمع للناس لا واحد له من لفظه. وقوله: {عليها تسعة عشر} خبر رابع عن {سَقر} من قوله: {وما أدراك ما سقر. ومعنى عليها} على حراستها، ف (على) للاستعلاء المجازي بتشبيه التصرف والولاية بالاستعلاء كما يقال: فلان على الشرطة، أو على بيت المال، أي يلي ذلك والمعنى: أن خزنة سقر تسعة عشر مَلَكاً. وقال جمع: إن عدد تسعة عشر: هُم نقباء الملائكة الموكلين بجهنم. وقيل: تسعة عشر صِنفاً من الملائكة وقيل تسعة عشر صفّاً. وفي «تفسير الفخر»: ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوهاً: أحدها قول أهل الحكمة: إن سبب فساد النفس هو القُوى الحيوانية والطبيعية أما الحيوانية فهي الخمس الظاهرة والخمس الباطنة، والشهوة والغضب، فمجموعها اثنتا عشرة. وأما القوى الطبيعية فهي: الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة، والغاذية، والنامية، والمولِّدة، فهذه سبعة، فتلك تسعَ عشرة. فلما كان منشأ الآفات هو هذه التسع عشرة كان عدد الزبانية كذلك اه. والذي أراه أن الملائكة التسعة عشر موزَّعون على دركات سقر أو جهنمَ لكل دَرك مَلك فلعل هذه الدركات معيَّن كل درك منها لأهل شعبة من شُعب الكفر، ومنها الدرك الأسفل الذي ذكره الله تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} في سورة النساء (145) فإن الكفر أصناف منها إنكار وجود الله، ومنها الوثنية، ومنها الشرك بتعدد الإله، ومنها عبادة الكواكب، ومنها عبادة الشيطان والجن، ومنها عبادة الحيوان، ومنها إنكار رسالة الرسل، ومنها المجوسية المانوية والمزدكية والزندقة، وعبادة البشر مثل الملوك، والإِباحيةُ ولو مع إثبات الإله الواحد. وفي ذكر هذا العدد تحدَ لأهل الكتابين يبعثهم على تصديق القرآن إذ كان ذلك مما استأثر به علماؤهم كما سيأتي قوله: {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب} [المدثر: 31]. وقرأ الجمهور {تسعة عَشر} بفتح العين من {عَشر.} وقرأ أبو جعفر {تسعة عشر} بسكون العين من {عشْر} تخفيفاً لتوالي الحركات فيما هو كالاسم الواحد، ولا التفات إلى إنكار أبي حاتم هذه القراءة فإنها متواترة.
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)} {عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَآ أصحاب}. روى الطبري عن ابن عباس وجابر بن زيد: «أن أبا جهل لما سمع قوله تعالى: {عليها تسعة عشر} [المدثر: 30] قال لقريش: ثكلتكم أمهاتكم إن ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدَّهْم أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم؟ فقال الله تعالى: {وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة}، أي ما جعلناهم رجالاً فيأخذ كل رجل رجلاً، فمن ذا يغلب الملائكة اه. وفي «تفسير القرطبي» عن السدي: أن أبا الأشَدَّ بنَ كَلَدَة الجمحِي قال مستهزئاً: لا يَهُولَنَّكم التسعةَ عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمننِ عشرة وبمنكبي الأيسر تسعة ثم تمرون إلى الجنة، وقيل: قال الحارث بن كَلَدة: أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني أنتم اثنين، يريد التهكم مع إظهار فرط قوته بين قومه. فالمراد مِن {أصحاب النار} خزنتها، وهم المتقدم ذكرهم بقوله: {عليها تسعةَ عشر} [المدثر: 30]. والاستثناء من عموم الأنواع، أي ما جعلنا خزنة النار من نوع إلاّ من نوع الملائكة. وصيغة القصر تفيد قلب اعتقاد أبي جهل وغيره مَا توهموه أو تظاهروا بتوهمه أن المراد تسعة عشر رجلاً فطمع أن يخلص منهم هو وأصحابه بالقوة فقد قال أبو الأشدِّ بن أُسَيد الجُمحِي: لا يَبلغون ثوبي حتى أُجْهضَهم عن جهنم، أي أنحِّيهم. وقوله تعالى: {وما جعلنا عدّتهم إلا فتنة للذين كفروا} تتميم في إبطال توهم المشركين حقارة عدد خزنة النار، وهو كلام جار على تقدير الأسلوب الحكيم إذ الكلام قد أثار في النفوس تساؤلاً عن فائدة جعل خزنة جهنم تسعةَ عشر وهلاّ كانوا آلافاً ليكون مرآهم أشد هولاً على أهل النار، أو هلاَّ كانوا ملكاً واحداً فإن قُوى الملائكة تأتي كل عمل يسخرها الله له، فكان جواب هذا السؤال: أن هذا العدد قد أظهر لأصناف الناس مبلغ فَهم الكفار للقرآن. وإنما حصلت الفتنة من ذكر عددهم في الآية السابقة. فقوله: {وما جعلنا عدتهم} تقديره: وما جعلنا ذكر عدتهم إلاّ فتنة، ولاستيقان الذين أوتوا الكتاب، وازدياد الذين آمنوا إيماناً، واضطراب الذين في قلوبهم مرض فيظهر ضلال الضالين واهتداء المهتدين. فالله جعل عدة خزنة النار تسعة عشر لحكمة أخرى غير ما ذكر هنا اقتضت ذلك الجعل يعلمها الله. والاستثناء مفرغ لمفعول ثان لفعل {جعلنا} تقديره جعلنا عدتهم فتنة لا غير، ولما كانت الفتنة حالاً من أحوال الذين كفروا لم تكن مراداً منها ذاتها بل عروضها للذين كفروا فكانت حالاً لهم. والتقدير: ما جعلنا ذكر عدتهم لعلة وغرض إلاّ لغرض فتنة الذين كفروا؛ فانتصب {فتنة} على أنه مفعول ثان لفعل {جعلنا} على الاستثناء المفرغ، وهو قصر قلب للردّ على الذين كفروا إذ اعتقدوا أن عدتهم أمر هيّن. وقوله: {ليستيقن الذين أُوتوا الكتاب} الخ. علة ثانية لفعل {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة}. ولولا أن كلمة {فتنة} منصوبة على المفعول به لِفعل {جعلنا}. لكان حق {ليستيقن} أن يعطف على {فتنة} ولكنه جاء في نظم الكلام متعلقاً بفعل: {وما جعلنا عدتهم إلا فتنة. ويجوز أن يكون للذين كفروا} متعلقاً بفعل {جعلنا وب فتنة}، على وجه التنازع فيه، أي ما جعلنا عدتهم للذين كفروا إلاّ فتنةً لهم إذ لم يحصل لهم من ذكرها إلاّ فساد التأويل، وتلك العِدة مجعولة لفوائد أخرى لغير الذين كفروا الذين يفوضون معرفة ذلك إلى علم الله وإلى تدبر مفيد. والاستيقان: قوة اليقين، فالسين والتاء فيه للمبالغة. والمعنى: ليستيقنوا صدق القرآن حيث يجدون هذا العدد مصدقاً لما في كتبهم. والمراد ب {الذين أُوتوا الكتاب} اليهود حين يبلغهم ما في القرآن من مثل ما في كتبهم أو أخبارهم. وكان اليهود يترددون على مكة في التجارة ويتردد عليهم أهل مكة للميرة في خيبر وقريظة ويثرب فيسأل بعضهم بعضاً عما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم ويودّ المشركون لو يجدون عند اليهود ما يكذبون به أخبار القرآن ولكن ذلك لم يجدوه ولو وجدوه لكان أيسر ما يطعنون به في القرآن. والاستيقان من شأنه أن يعقبه الإِيمان إذا صادف عقلاً بريئاً من عوارض الكفر كما وقع لعبد الله بن سَلاَم وقد لا يعقبه الإِيمان لمكابرة أو حسد أو إشفاق من فوات جاه أو مال كما كان شأن كثير من اليهود الذي قال الله فيهم {يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن كثيراً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} [البقرة: 146] ولذلك اقتصرت الآية على حصول الاستيقان لهم. روى الترمذي بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل يعلم نبيئكم عدد خزنة النار؟، قالوا: لا ندري حتى نسأل نبيئنا. فجاء رجل إلى النبي فقال: يا محمد غُلب أصحابكم اليوم، قال: وبم غلبوا قال: سألهم يهودُ: هل يعلم نبيئكم عدد خزنة النار، قال: فما قالوا؟ قال: قالوا لا ندري حتى نسأل نبيئنا، قال: أفغُلب قوم سُئلوا عما لا يعلمون؟ فقالوا: لا نعلم حتى نسأل نبيئنا إلى أن قال جابر: فلما جاءوا قالوا: يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنم؟ قال. هكذا وهكذا في مرة عشرة وفي مرة عشرة وفي مرة تسع (بإشارة الأصابع) قالوا: نعم الخ. وليس في هذا ما يُلجئ إلى اعتبار هذه الآية نازلة بالمدينة كما روي عن قتادة لأن المراجعة بين المشركين واليهود في أخبار القرآن مألوفة من وقت كون النبي صلى الله عليه وسلم في مكة. قال أبوبكر ابن العربي في «العارضة»: حديث جابر صحيح والآية التي فيها {عليها تسعةَ عشر} [المدثر: 30] مكية بإجماع، فكيف تقول اليهود هذا ويدعوهم النبي للجواب وذلك كان بالمدينة، فيحتمل أن الصحابة قالوا: لا نعلم، لأنهم لم يكونوا قرأوا الآية ولا كانت انتشرت عندهم (أي لأنهم كانوا من الأنصار الذين لم يتلقوا هذه الآية من سورة المدثر لبعد عهد نزولها بمكة وكان الذين يجتمعون باليهود ويسألهم اليهود هم الأنصار. قال: ويحتمل أن الصحابة لم يمكنهم أن يعينوا أن التسعة عشر هم الخزنة دون أن يعيِّنهم الله حتى صرح به النبي صلى الله عليه وسلم اه. فقد ظهر مصداق قوله تعالى: {ليستيقن الذين أُوتوا الكتاب} بعد سنين من وقت نزوله. ومعنى {ويزداد الذين ءامنوا إيماناً} أنهم يؤمنون به في جملة ما يؤمنون به من الغيب فيزداد في عقولهم جُزئيّ في جزئيات حقيقة إيمانهم بالغيب، فهي زيادة كمية لا كيفية لأن حقيقة الإِيمان التصديق والجزم وذلك لا يقبل الزيادة، وبمثل هذا يكون تأويل كل ما ورد في زيادة الإِيمان من أقوال الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة. وقوله: {ولا يرتاب الذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون} عطف على {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب،} أي لينتفي عنهم الريب فلا تعتورهم شبهة من بعد علمه لأنه إيقان عن دليل. وإن كان الفريقان في العمل بعلمهم متفاوتين، فالمؤمنون علموا وعَملوا، والذين أُوتوا الكتاب علموا وعاندوا فكان علمهم حجة عليهم وحسرة في نفوسهم. والمقصود من ذكره التمهيد لذكر مكابرة الذين في قلوبهم مرض والكافرين في سوء فهمهم لهذه العِدة تمهيداً بالتعريض قبل التصريح، لأنه إذا قيل {ولا يرتاب الذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون} شعر الذين في قلوبهم مرض والكافرون بأنهم لما ارتابوا في ذلك فقد كانوا دون مرتبة الذين أوتوا الكتاب لأنهم لا ينازعون في أن الذين أوتوا الكتاب أرجح منهم عقولاً وأسد قولاً، ولذلك عطف عليه {وليقولَ الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً}، أي ليقولوا هذا القول إعراباً عما في نفوسهم من الطعن في القرآن غير عالمين بتصديق الذين أوتوا الكتاب. واللام لام العاقبة مثل التي في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً} [القصص: 8]. والمرض في القلوب: هو سوء النية في القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم وهؤلاء هم الذين لم يزالوا في تردد بين أن يسلموا وأن يبقوا على الشرك مثل الأخنس بن شَرِيق والوليد بن المغيرة، وليس المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون لأن المنافقين ما ظهروا إلاّ في المدينة بعد الهجرة والآية مكية. و {ماذا أراد الله} استفهام إنكاري فإن (ما) استفهامية، و(ذا) أصله اسم إشارة فإذا وقع بعد (ما) أو (مَن) الاستفهاميتين أفاد معنى الذي، فيكون تقديره: ما الأَمر الذي أراده الله بهذا الكلام في حال أنه مثل، والمعنى: لم يرد الله هذا العدد الممثل به، وقد كُنّي بنفي إرادة الله العدد عن إنكار أن يكون الله قال ذلك، والمعنى: لم يرد الله العدد الممثل به فكنَّوا بنفي إرادة الله وصفَ هذا العددِ عن تكذيبهم أن يكون هذا العدد موافقاً للواقع لأنهم ينفون فائدته، وإنما أرادوا تكذيب أن يكون هذا وحياً من عند الله. والإِشارة بهذا إلى قوله: {عليها تسعةَ عشر} [المدثر: 30]. و {مثلاً} منصوب على الحال من هذا، والمثل: الوصف، أي بهذا العدد وهو تسعة عشر، أي ما الفائدة في هذا العدد دون غيره مثل عشرين. والمثل: وصف الحالة العجيبة، أي ما وصَفه من عدد خزنة النار كقوله تعالى: {مثل الجنّة التي وعد المتقون} [محمد: 15] الآية. وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى: {وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً} في سورة [البقرة: 26]. اسم الإِشارة عائد إلى ما تضمنه الكلام المتقدم من قوله: {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب} إلى قوله: {مثلاً} بتأويل ما تضمنه الكلام، بالمذكور، أي مثل ذلك الضلال الحاصل للذين في قلوبهم مرض وللكافرين، والحاصل للذين أوتوا الكتاب بعد أن استيقنوا فلم يؤمنوا يُضل الله من يشاء أن يضله من عباده، ومثل ذلك الهُدى الذي اهتداه المؤمنون فزادهم إيماناً مع إيمانهم يَهدي الله من يشاء. والغرض من هذا التشبيهِ تقريبُ المعنى المعقول وهو تصرف الله تعالى بخلق أسباب الأحوال العارضة للبشر، إلى المعنى المحسوس المعروف في واقعة الحال، تعليماً للمسلمين وتنبيهاً للنّظر في تحصيل ما ينفع نفوسهم. ووجه الشبه هو السببية في اهتداء من يهتدي وضَلال من يَضِل، في أن كُلاًّ من المشبَّه والمشبه به جعله الله سبباً وإرادة لحكمة اقتضاها علمه تعالى فتفاوتَ الناسُ في مدى إفهامهم فيه بين مهتدٍ ومرتاببٍ مُختلف المرتبةِ في ريبه، ومكابرٍ كافر وسَيّئ فهممٍ كافر. وهذه كلمة عظيمة في اختلاف تلقي العقول للحقائق وانتفاعهم بها أو ضده بحسب اختلاف قرائحهم وفهومهم وتراكيب جبلاتهم المتسلسلة من صواب إلى مثله، أو من تردد واضطراب إلى مثله، أو من حَنق وعناد إلى مثله، فانطوى التشبيه من قوله: {كذلك} على أحوال وصور كثيرة تظهر في الخارج. وإسناد الإِضلال إلى الله تعالى باعتبار أنه موجِد الأسباب الأصلية في الجبلات، واقتباس الأهواء وارتباط أحوال العالم بعضها ببعض، ودعوة الأنبياء والصلحاء إلى الخير، ومقاومة أيمة الضلال لتلك الدعوات. تلك الأسباب التي أدت بالضالين إلى ضلالهم وبالمهتدين إلى هداهم. وكلٌّ من خلق الله. فما على الأنفس المريدة الخير والنجاة إلاّ التعرض لأحد المهيعين بعد التجرد والتدبر {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286]. ومشيئة الله ذلك تعلق علمه بسلوك المهتدين والضالّين. ومحل {كذلك} نصب بالنيابة عن المفعول المطلق لأن الجار والمجرور هنا صفة لمصدر محذوف دلّت عليه الصفة، والتقدير: يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء إضلالاً وهدياً كذلك الإِضلال والهدي. وليس هذا من قبيل قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} [البقرة: 143]. وقدم وصف المفعول المطلق للاهتمام بهذا التشبيه لما يرشد إليه من تفصيل عند التدبر فيه، وحصل من تقديمه محسّن الجمع ثم التقسيم إذ جاء تقسيمه بقوله {يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء. كلمة جامعة لإِبطال التخرصَات التي يتخرصها الضالون ومرضى القلوب عند سماع الأخبار عن عالم الغيب وأمور الآخرة من نحو: ما هَذَا به أبو جهل في أمر خزنة جهنم يشمل ذلك وغيره، فلذلك كان لهذه الجملة حكم التذييل. والجنودُ: جمع جند وهو اسم لجماعة الجيش واستعير هنا للمخلوقات التي جعلها الله لتنفيذ أمره لمشابهتها الجنود في تنفيذ المراد. وإضافة رب إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إضافة تشريف، وتعريض بأن من شأن تلك الجنود أن بعضها يكون به نصرُ النبي صلى الله عليه وسلم ونفي العلم هنا نفي للعلم التفصيلي بأعدادها وصفاتها وخصائصها بقرينة المقام، فإن العلم بعدد خزنة جهنم قد حصل للناس بإعلام من الله لكنهم لا يعلمون ما وراء ذلك. فيه معان كثيرة أعلاها أن يكون هذا تتمة لقوله: {وما جعلنا عدتهم إلاّ فتنة للذين كفروا} على أن يكون جارياً على طريقة الأسلوب الحكيم، أي أن النافع لكم أن تعلموا أن الخبر عن خزنة النار بأنهم تسعة عشر فائدته أن يكون ذكرى للبشر ليتذكروا دار العقاب بتوصيف بعض صفاتها لأن في ذكر الصفة عوناً على زيادة استحضار الموصوف، فغرض القرآن الذكرى، وقد اتخذه الضالّون ومرضى القلوب لهواً وسخرية ومِراء بالسؤال عن جعلهم تسعة عشر ولِمَ لم يكونوا عشرين أو مئات أو آلافاً. وضمير {هي} على هذا الوجه إلى {عدتهم. ويجوز أن يرجع الضمير إلى الكلام السابق وتأنيث ضميره لتأويله بالقصّة أو الصفة أو الآيات القرآنية. والمعنى: نظير المعنى على الاحتمال الأول. ويحتمل أن يرجع إلى {سَقَر} [المدثر: 26] وإنما تكون {ذِكْرى} باعتبار الوعيد بها وذكرِ أهوالها. والقصرُ متوجه إلى مضاف محذوف يدل عليه السياق تقديره: وما ذكرها أو وصفها أو نحو ذلك. ويحتمل أن يرجع ضمير {هي} إلى {جنود ربّك} والمعنَى المعنى، والتقديرُ التقديرُ، أي وما ذكرها أو عِدة بعضها. وجوّز الزجاج أن يكون الضمير راجعاً إلى نار الدنيا، أي أنها تذكر للناس بنار الآخرة، يريد أنه من قبيل قوله تعالى: {أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تَذْكرة} [الواقعة: 71 73]. وفيه محسن الاستخدام. وقيل: المعنى: وما عدتهم إلاّ ذكرى للناس ليعلموا غنى الله عن الأعوان والجند فلا يظلوا في استقلال تسعة عشر تجاه كثرة أهل النار. وإنما حَمَلَت الآية هذه المعانيَ بحسن موقعها في هذا الموضع وهذا من بلاغة نظم القرآن. ولو وقعت إثر قوله: {لواحة للبشر} [المدثر: 29] لتمحض ضمير {وما هي إلاّ ذكرى} للعود إلى سقر، وهذا من الإعجاز بمواقع جمل القرآن كما في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير. وبين لفظ البشر المذكور هنا ولفظ البشَر المتقدم في قوله: {لوّاحة للبشر} التّجنيس التام.
{كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)} {كلاّ}. {لِلْبَشَرِ} حرف ردع وإبطال. والغالب أن يقع بعد كلام من متكلم واحد أوْ من متكلم وسامععٍ مثل قوله تعالى: {قال أصحاب موسى إنا لمُدْرَكون قال كلا إن معي ربي سيهدين} [الشعراء: 61، 62] فيفيد الردع عما تضمنه الكلام المحكي قبله. ومنه قوله تعالى: {كلا سنكتب ما يقول} في سورة مريم (79)، ويجوز تقديمه على الكلام إذا أريد التعجيلُ بالردع والتشويقُ إلى سماع ما بعده، وهو هنا محتمل لأن يكون إبطالاً لما قبله من قولهم: فإذا أراد الله بهذا مثلاً، فيكون ما بينهما اعتراضاً ويكون قوله والقمرِ} ابتداء كلام فيحسن الوقف على {كلاّ}. ويحتمل أن يكون حرف إبطال مقدماً على الكلام الذي بعده من قوله: {إنها لإِحدى الكبر نذيراً للبشر} تقديم اهتمام لإِبطال ما يجيء بعده من مضمون قوله: {نذيراً للبشر،} أي من حقهم أن ينتذروا بها فلم ينتذر أكثرهم على نحو معنى قوله: {وأنَّى له الذكرى} [الفجر: 23] فيحسن أن توصل في القراءة بما بعدها. الواو المفتتح بها هذه الجملة واو القسم، وهذا القسم يجوز أن يكون تذييلاً لما قبله مؤكِّداً لما أفادته {كَلاّ} من الإِنكار والإِبطال لمقالتهم في شأن عدة خزنة النار، فتكون جملة {إِنها لإِحدى الكبر} تعليلاً للإِنكار الذي أفادته {كَلاّ} ويكون ضمير {إنها} عائداً إلى {سقَر} [المدثر: 26]، أي هي جديرة بأن يتذكر بها فلذلك كان من لم يتذكر بها حقيقاً بالإِنكار عليه وردعه. وجملة القسم على هذا الوجه معترضة بين الجملة وتعليلها، ويحتمل أن يكون القسم صدراً للكلام الذي بعده وجملة {إنها لإِحدى الكبر} جواب القسم والضمير راجع إلى {سقَر، أي أن سقر لأعظم الأهوال، فلا تجزي في معاد ضمير إنها} جميع الاحتمالات التي جرت في ضمير {وما هي إلاّ ذكرى} [المدثر: 31]. وهذه ثلاثة أيمان لزيادة التأكيد فإن التأكيد اللفظي إذا أكد بالتكرار يكرر ثلاث مرات غالباً، أقسم بمخلوق عظيم، وبحالين عظيمين من آثار قدرة الله تعالى. ومناسبة القَسَم ب {القمر والليل إذ أدبر والصبحُ إذا أسفر} أن هذه الثلاثة تظهر بها أنوار في خلال الظلام فناسبت حالي الهدى والضلال من قوله: {كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء} [المدثر: 31] ومن قوله: {وما هي إلاّ ذكرى للبشر} [المدثر: 31] ففي هذا القسَم تلويح إلى تمثيل حال الفريقين من الناس عند نزول القرآن بحال اختراق النور في الظلمة. وإدبار الليل: اقتراب تقضيه عند الفجر، وإسفار الصبح: ابتداء ظهور ضوء الفجر. وكل من {إذْ} و{إذَا} واقعان اسمي زمان منتصبان على الحال من الليل ومن الصبح، أي أُقسم به في هذه الحالة العجيبة الدالة على النظام المحكم المتشابه لمحو الله ظلمات الكفر بنور الإِسلام قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} [إبراهيم: 1]. وقد أجريت جملة {إنها لإِحدى الكبر} مجرى المثل. ومعنى {إحدى} أنها المتوحدة المتميزة من بين الكبر في العظم لا نظيرة لها كما يقال: هو أحدَ الرجال لا يراد: أنه واحد منهم، بل يراد: أنه متوحد فيهم بارز ظاهر، كما تقدم في قوله: {ذرني ومن خلقت وحيداً} [المدثر: 11]، وفي المثل «هذه إحدى حُظَيَّات لقمان». وقرأ نافع وحمزة وحفص ويعقوب وخلف {إذْ أدبر} بسكون ذال {إذ} وبفتح همزة {أدبر} وإسكان داله، أقسم بالليل في حالة إدباره التي مضت وهي حالة متجددة تَمضي وتَحْضُر وتُستْقبل، فأي زمن اعتبر معها فهي حقيقة بأن يُقسم بكونها فيه، ولذلك أقسم بالصبح إذَا أسفر مع اسم الزمن المستقبل. وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم والكسائيّ وأبو جعفر {إِذَا دَبَر} بفتح الذال المعجمة من {إذا} بعدها ألف، وبفتح الدّال المهملة من دَبَر على أنه فعل مضي مجرد، يقال: دَبَر، بمعنى: أدبر، ومنه وصفه بالدّابر في قولهم: أمسسِ الدّابرِ، كما يقال: قبل بمعنَى أقبل، فيكون القسم بالحالة المستقبلة من إدبار الليل بعد نزول الآية، على وزان {إذَا أسفر} في قراءة الجميع، وكل ذلك مستقيم فقد حصل في قراءة نافع وموافقيه تفنن في القسم. و {الكُبَر}: جمع الكبرى في نوعها، جمعوه هذا الجمع على غير قياسسِ بابه لأن فُعْلى حقها أن تجمع جمع سلامة على كبريات، وأما بنية فُعل فإنها جمع تكسير لفُعْلة كغُرفة وغُرف، لكنهم حملوا المؤنث بالألف على المؤنث بالهاء لأنهم تأولوه بمنزلة اسم للمصيبة العظيمة ولم يعتبروه الخصلة الموصوفة بالكِبر، أي أُنثى الأكبر فلذلك جعلوا ألف التأنيث التي فيه بمنزلة هاء التأنيث فجمعوه كجمع المؤنث بالهاء من وزن فعلة ولم يفعلوا ذلك في إخواته مثل عظمى. وانتصب {نذيراً} على الحال من ضمير {إِنها}، أي إنها لعُظمَى العظائم في حال إنذارها للبشر وكفى بها نذيراً. والنذير: المُنذر، وأصله وصف بالمصدر لأن {نذيراً} جاء في المصادر كما جاء النكير، والمصدر إذا وصف به أو أخبر به يلزم الإِفرادَ والتذكيرَ، وقد كثر الوصف ب (النذير) حتى صار بمنزلة الاسم للمُنذر. وقوله: {لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} بدل مفصل من مجمل من قوله {للبشر}، وأعيد حرف الجر مع البدل للتأكيد كقوله تعالى: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم} [الأعراف: 75]، وقوله: {إن هو إلاّ ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم} [التكوير: 27، 28] وقوله تعالى: {تكون لنا عيداً لأوَّلنا وآخِرِنا} [المائدة: 114]. والمعنى: إنها نذير لمن شاء أن يتقدم إلى الإِيمان والخير لينتذر بها، ولمن شاء أن يتأخر عن الإيمان والخير فلا يرعوي بنذارتها لأن التقدّم مشي إلى جهة الإمام فكأنَّ المخاطب يمشي إلى جهة الداعي إلى الإِيمان وهو كناية عن قبول ما يدعو إليه، وبعكسه التأخر، فحذف متعلق {يتقدم ويتأخّر} لظهوره من السياق. ويجوز أن يقدر: لمن شاء أن يتقدم إليها، أي إلى سَقَر بالإِقدام على الأعمال التي تُقدمه إليها، أو يتأخر عنها بتجنب ما من شأنه أن يقربه منها. وتعليق {نذيراً} بفعل المشيئة إنذار لمن لا يتذكر بأن عدم تذكره ناشئ عن عدم مشيئته فتبعتُه عليه لتفريطه على نحو قول المثل «يَداك أوكَتا وفُوك نفخ»، وقد تقدم في سورة المزمل (19) قوله: {إنَّ هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلاً وفي ضمير منكم} التفات من الغيبة إلى الخطاب لأن مقتضى الظاهر أن يقال: لمن شاء منهم، أي من البشر.
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)} استئناف بياني يبين للسامع عقبى الاختيار الذي في قوله: {لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} [المدثر: 37] أي كل إنسان رَهْن بما كسب من التقدم أو التأخر أو غير ذلك فهو على نفسه بصيرة ليكسب ما يفضي به إلى النعيم أو إلى الجحيم. و {رهينة}: خبر عن {كل نفس} وهو بمعنى مرهونة. والرهن: الوثاق والحبس ومنه الرهن في الدَيْن، وقد يطلق على الملازمة والمقارنة، ومنه: فَرَسا رِهَاننٍ، وكِلا المعنيين يصح الحمل عليه هنا على اختلاف الحال، وإنما يكون الرهن لتحقيق المطالبة بحق يخشى أن يتفلت منه المحْقوق به، فالرهن مشعر بالأخذ بالشدة ومنه رهائن الحرب الذين يأخذهم الغالب من القوم المغلوبين ضماناً لئلا يخيس القومُ بشروط الصلح وحتى يعطوا ديات القتلى فيكون الانتقام من الرهائن. وبهذا يكون قوله: {كل نفس} مراداً به خصوص أنفس المنذَرين من البشر فهو من العام المراد به الخصوص بالقرينة، أي قرينة ما تعطيه مادة رَهينة من معنى الحَبس والأسر. والباء للمصاحبة لا للسببية. وظاهر هذا أنه كلام منصف وليس بخصوص تهديدِ أهل الشر. و {رهينة}: مصدر بوزن فَعِيلة كالشَّتيمة فهو من المصادر المقترنة بهاء كهاء التأنيث مثل الفُعولة والفعالة، وليس هو من باب فعيل الذي هو وصف بمعنى المفعول مثيل قتيلة، إذ لو قصد الوصف لقيل رعين لأن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا جرى على موصوفه كما هنا، والإِخبار بالمصدر للمبالغة على حد قول مِسْوَر بن زيادة الحارثي: أبَعْدَ الذي بالنَّعْففِ نَعْففِ كُوَيكِبٍ *** رهينةِ رَمْس ذي تراب وجندل ألا تراه أثبت الهاء في صفة المذكر وإلاّ لما كان موجب للتأنيث. والاستثناء في قوله: {إلاّ أصحابَ اليمين} استثناء منقطع. و {أصحاب اليمين}: هم أهل الخير جعلت علاماتهم في الحشر بجهات اليمين في مناولة الصحف وفي موقف الحساب وغير ذلك. فاليمين هو جهة أهل الكرامة في الاعتبار كجهة يمين العرش أو يمين مَكان القُدُس يوم الحشر لا يحيط بها وصفنا وجعلت علامة أهل الشر الشمال في تناول صحف أعمالهم وفي مواقفهم وغير ذلك. وقوله: {في جنّات} يجوز أن يكون متعلقاً بقوله: {يتساءلون} قدّم للاهتمام، و{يتساءلون} حال من {أصحاب اليمين} وهو مناط التفصيل الذي جيء لأجله بالاستثناء المنقطع. ويجوز أن يكون {في جنات} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم في جنات. والجملة استئناف بياني لمضمون جملة الاستثناء ويَكون {يتساءَلون} حالاً من الضمير المحذوف. ومعنى {يتساءلون} يجوز أن يكون على ظاهر صيغة التفاعل للدلالة على صدور الفعل من جانبين، أي يسأل أصحاب اليمين بعضُهم بعضاً عن شأن المجرمين، وتكون جملة {ما سلككم في سقر} بياناً لجملة {يتساءلون.} وضمير الخطاب في قوله: {سلككم} يؤذن بمحذوف والتقدير: فيسألون المجرمين ما سلككم في سقر، وليس التفاتاً، أو يقول بعض المسؤولين لأصحابهم جواباً لسائليهم قلنا لهم: ما سلككم في سقر. ويجوز أن يكون صيغة التفاعل مستعملة في معنى تكرير الفعل أي يكثر سؤال كل أحد منهم سؤالاً متكرراً أو هو من تعدد السؤال لأجل تعدد السائلين. قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {واتقوا الله الذي تسَّاءَلون به} في أول سورة النساء (1) هو كقولك تَداعينا. ونقل عنه أيضاً أنه قال هنا: إذا كان المتكلم مفرداً يقال: دعوت، وإذا كان المتكلم متعدّداً يقال: تداعينا، ونظيره، رميتُه وتراميناه ورأيت الهلال وتَراءيناه ولا يكون هذا تفاعلاً من الجانبين اه. ذكره صاحب الكشّاف} في سورة النساء، أي هو فعل من جانب واحد ذي عدد كثير، وعلى هذا يكون مفعول {يتساءَلون} محذوفاً يدلّ عليه قوله {عن المجومين}. والتقدير: يتساءلون المجرمين عنهم، أي عن سبب حصولهم في سقر، ويدل عليه بيان جملة {يتساءلون} بجملة {ما سلككم في سقر،} فإن {ما سلككم} في بيان للتساؤل. وأصل معنى سلكه أدخله بين أجزاء شيء حقيقة ومنه جاء سِلْك العِقد، واستعير هنا للزج بهم، وتقدم في سورة الحجر (12) قوله تعالى: {كذلك نَسْلُكْهُ في قلوب المجرمين} وفي قوله: {نُسْلِكْه عذاباً صعداً} في سورة الجن (17). والمعنى: ما زجَّ بكم في سقر. فإن كان السؤال على حقيقته والاستفهام مستعملاً في أصل معناه كان الباعث على السؤال: إِمَّا نسيان الذي كانوا عَلِموه في الدنيا من أسباب الثواب والعقاب فيبقى عموم يتساءلون} الراجع إلى أصحاب اليمين وعموم المجرمين على ظاهره، فكل من أصحاب اليمين يشرف على المجرمين من أعالي الجنة فيسألهم عن سبب ولوجهم النار فيحصل جوابهم وذلك إلهام من الله ليحمده أهل الجنّة على ما أخذوا به من أسباب نجاتهم ممّا أصاب المجرمين ويفرحوا بذلك. وإما أن يكون سؤالاً موجهاً من بعض أصحاب اليمين إلى ناس كانوا يَظنونهم من أهل الجنة فرأوهم في النار من المنافقين أو المرتدين بعد موت أصحابهم، فيكون المراد بأصحابه اليمين بعضهم وبالمجرمين بعضهم وهذا مثل ما في قوله تعالى: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} الآيات في سورة الصافات (27، 28) وقوله فيها: {قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين} إلى قوله {في سواء الجحيم} [الصافات: 51 55]. وإن كان السؤال ليس على حقيقته وكان الاستفهام مستعملاً في التنديم، أو التوبيخ فعموم أصحاب اليمين وعموم المجرمين على حقيقته. وأجاب المجرمون بذكر أسباب الزج بهم في النار لأنهم ما ظنوا إلاّ ظاهر الاستفهام، فذكروا أربعة أسباب هي أصول الخطايا وهي: أنهم لم يكونوا من أهل الصلاة فحرموا أنفسهم من التقرب إلى الله. وأنهم لم يكونوا من المطعمين المساكين وذلك اعتداء على ضعفاء الناس بمنعهم حقهم في المال. وأنهم كانوا يخوضون خوضهم المعهود الذي لا يعدُو عن تأييد الشرك وأذى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وأنهم كذبوا بالجزاء فلم يتطلبوا ما ينجيهم. وهذا كناية عن عدم إيمانهم، سلكوا بها طريق الإِطناب المناسبَ لمقام التحسر والتلهف على ما فات، فكأنهم قالوا: لأنا لم نكن من المؤمنين لأن أهل الإِيمان اشتهروا بأنهم أهل الصلاة، وبأنهم في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، وبأنهم يؤمنون بالآخرة وبيوم الدين ويصدقون الرسل وقد جمعها قوله تعالى في سورة البقرة (2 4) {هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} وأصل الخوض الدخول في الماء، ويستعار كثيراً للمحادثة المتكررة، وقد اشتهر إطلاقه في القرآن على الجدال واللجاج غير المحمود قال تعالى: {ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} [الأنعام: 91] وغيرَ ذلك، وقد جمع الإِطلاقين قوله تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره} [الأنعام: 68]. وباعتبار مجموع الأسباب الأربعة في جوابهم فضلاً عن معنى الكناية، لم يكن في الآية ما يدل للقائلين بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة. ويوم الدين: يوم الجزاء والجزاء. و {اليقين}: اسم مصدر يَقِن كفَرِح، إذا علم علماً لا شك معه ولا تردد. وإتيانه مستعار لحصوله بعد أن لم يكن حاصلاً، شبه الحُصول بعد الانتفاء بالمجيء بعد المغيب. والمعنى: حتى حصل لنا العلم بأن ما كنا نكذب به ثابت، فقوله: {حتى أتانا اليقين} على هذا الوجه غاية لجملة {نكذب بيوم الدين. ويطلق اليقين أيضاً على الموت لأنه معلوم حصوله لكل حيّ فيجوز أن يكون مراداً هنا كما في قوله تعالى: {واعبد رَبّك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 99]. فتكون جملة {حتى أتانا اليقين} غاية للجمل الأربع التي قبلها من قوله: {لم نَكْ من المصلين} إلى {بيوم الدين. والمعنى: كنا نفعل ذلك مدة حياتنا كلها. وفي الأفعال المضارعة في قوله: لم نك، ونخوض، ونكذب} إيذان بأن ذلك ديدنهم ومتجدد منهم طول حياتهم. وفي الآية إشارة إلى أن المسلم الذي أضاع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مستحق حظّاً من سقر على مقدار إضاعته وعلى ما أراد الله من معادلة حسناته وسيئاته، وظواهره وسرائره، وقبل الشفاعة وبعدها. وقد حَرَم الله هؤلاء المجرمين الكافرين أن تنفعهم الشفاعة فعسى أن تنفع الشفاعةُ المؤمنين على أقدارهم. وفي قوله: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} إيماء إلى ثبوت الشفاعة لغيرهم يوم القيامة على الجملة وتفصيلها في صحاح الأخبار. وفاء {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} تفريع على قوله: {كلّ نفس بما كسبت رهينة،} أي فهم دائمون في الارتهان في سقر.
{فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)} تفريع للتعجيب من إصرارهم على الإِعراض عن ما فيه تذكرة على قوله: {وما هي إلاّ ذِكْرى للبشر} [المدثر: 31]. وجيء باسم التذكرة الظاهر دون أن يؤتى بضمير نحو: أن يقال: عنها معرضين، لئلا يختص الإِنكار والتعجيب بإعراضهم عن تذكرة الإِنذار بسقَر، بل المقصود التعميم لإِعراضهم عن كل تذكرة وأعظمها تذكرة القرآن كما هو المناسب للإِعراض قال تعالى: {إنْ هو إلاّ ذِكْر للعالمين} [التكوير: 27]. و {ما لهم} استفهام مستعمل في التعجيب من غرابة حالهم بحيث تجدر أن يستفْهِم عنها المستفهِمُون وهو مجاز مرسل بعلاقة الملازمة، و{لهم} خبر عن (ما) الاستفهامية. والتقدير: ما ثبت لهم، و{معرضين} حال من ضمير {لهم}، أي يستفهم عنهم في هذه الحالة العجيبة. وتركيب: ما لَكَ ونحوهُ، لا يخلو من حال تلحق بضميره مفردةٍ أو جملة نحو {ما لك لاَ تأمنّا على يوسف} في سورة يوسف (11). وقوله تعالى: {فما لهم لا يؤمنون} في سورة الانشقاق (20). وقوله: {ما لكم كيف تحكمون} في سورة الصافات (154) وسورة القلم (36). و{عن التذكرة} متعلق ب {معرضين. وشُبهتْ حالة إعراضهم المتخيَّلة بحالة فرار حُمُر نافرة مما ينفرها. والحُمر: جمع حمار، وهو الحمار الوحشي، وهو شديد النفار إذا أحس بصوت القانص وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس. وقد كثر وصف النفرة وسرعة السير والهَرب بالوحش من حُمرٍ أو بقرِ وحش إذا أحسسنَ بما يرهبنه كما قال لبيد في تشبيه راحلته في سرعة سيرها بوحشية لحقها الصياد: فتوجَّسَت رِزّ الأنيس فراعَها *** عَنْ ظَهْرِ غَيْببٍ والأنيسُ سَقَامها وقد كثر ذلك في شعر العرب في الجاهلية والإِسلام كما في معلقة طرفة، ومعلقة لبيد، ومعلقة الحارث، وفي أراجيز الحجَّاج ورؤيَة ابنهِ وفي شعر ذي الرمة. والسين والتاء في مستنفرة} للمبالغة في الوصف مثل: استكمل واستجاب واستعجب واستسخر واستخرج واستنبط، أي نافرة نفاراً قوياً فهي تعدو بأقصى سرعة العدو. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر {مستنفَرة} بفتح الفاء، أي استنفرها مستنفر، أي أنفرها، فهو من استنفره المتعدي بمعنى أنفره. وبناء الفعل للنائب يفيد الإِجمال ثم التفصيل بقوله: {فَرَّت من قَسْوَرة. وقرأها الجمهور بكسر الفاء، أي استنفرت هي مثل: استجاب، فيكون جملة فرّت من قسورة} بياناً لسبب نفورها. وفي «تفسير الفخر» عن أبي علي الفارسي قال محمد بن سلام: سألت أبا سوار الغَنَوِي وكان أعرابياً فصيحاً فقلت: كأنهم حُمُر مَاذا فقال: مستنفَرة: بفتح الفاء فقلت له: إنما هو فَرَّت من قسورة. فقال: أفرَّتْ؟ قلت: نعم، قال: فمستنفِرة إِذَنْ فكسَرَ الفاء. و {قسورة} قيل هو اسم جمع قسْوَر وهو الرامي، أو هو جمع على خلاف القياس إذ ليس قياس فَعْلَل أن يجمع على فَعْلَلة. وهذا تأويل جمهور المفسرين عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهما فيكون التشبيه جارياً على مراعاة الحالة المشهورة في كلام العرب. وقيل: القسورة مُفرد، وهو الأسد، وهذا مروي عن أبي هريرة وزيد بن أسلم وقال ابن عباس: إنه الأسد بالحبشية، فيكون اختلاف قول ابن عباس اختلافاً لفظياً، وعنه: أنه أنكر أن يكون قَسْور اسمَ الأسد، فلعله أراد أنه ليس في أصل العربية. وقد عدّه ابن السبكي في الألفاظ الواردة في القرآن بغير لغة العرب في أبيات ذكر فيها ذلك، قال ابن سيده: القسور الأسد والقسورة كذلك، أنثوه كما قالوا: أُسامة، وعلى هذا فهو تشبيه مبتكر لحالة إِعراض مخلوط برُعْب مما تضمنته قوارع القرآن فاجتمع في هذه الجملة تمثيلان. وإيثار لفظ {قسورة} هنا لصلاحيته للتشبيهين مع الرعاية على الفاصلة.
{بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)} إضراب انتقالي لذكر حالة أخرى من أحوال عنادهم إذ قال أبو جهل وعبد الله بن أبي أُمية وغيرهما من كفار قريش للنبيء صلى الله عليه وسلم لا نؤمن لك حتى يأتي إلى كل رجل منا كتاب فيه من الله إلى فلاننٍ بن فلان، وهذا من أفانين تكذيبهم بالقرآن أنه منزل من الله. وجُمِع (صُحُف) إما لأنهم سألوا أن يكون كل أمر أو نهي تأتي الواحدَ منهم في شأنه صحيفةٌ، وإِمّا لأنهم لما سألوا أن تأتي كل واحد منهم صحيفة باسمه وكانوا جماعة متفقين جمع لذلك فكأنّ الصحف جميعها جاءت لكل امرئ منهم. والمنشَّرة: المفتوحة المقرؤة، أي لا نكتفي بصحيفة مطوية لا نعلم ما كتب فيها و{منشَّرة} مبالَغَة في مَنْشُورة. والمبالغة واردة على ما يقتضيه فعل (نَشَر) المجرد من كون الكتاب مفتوحاً واضحاً من الصحف المتعارفة. وفي حديث الرجم فنشروا التوراة.
{كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (53)} {كَلاَّ} إبطال لظاهر كلامهم ومرادِهم منه وردع عن ذلك، أي لا يكون لهم ذلك. ثم أضرب على كلامهم بإبطال آخر بحرف الإِضراب فقال: {بل لا يخافون الآخرة} أي ليس ما قالوه إلاّ تنصلاً فلو أنزل عليهم كتاب ما آمنوا وهم لا يخافون الآخرة، أي لا يؤمنون بها فكُني عن عدم الإِيمان بالآخرة بعدم الخوف منها، لأنهم لو آمنوا بها لخافوها إذ الشأن أن يُخاف عذابها إذ كانت إحالتهم الحياة الآخرة أصلاً لتكذيبهم بالقرآن.
{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)} {كلا} ردع ثان مؤكِّد للردع الذي قبله، أي لا يُؤتون صحفاً منشورة ولا يُوزَعون إلاّ بالقرآن. وجملة {إنه تذكرة} تعليل للردع عن سؤالهم أنْ تنزل عليهم صحف منشَّرة، بأن هذا القرآن تذكرة عظيمة، وهذا كقوله تعالى: {وقالوا لولا أنزل عليه ءايات من ربّه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إنَّ في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} [العنكبوت: 50، 51]. فضمير {إنه} للقرآن، وهو معلوم من المقام، ونظائر ذلك كثيرة في القرآن. وتنكير {تذكرة} للتعظيم. وقوله: {فمن شاء ذكره} تفريع على أنه تذكرة ونظيره قوله تعالى: {إنّ هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلاً} في سورة المزمل (19). وهذا تعريض بالترغيب في التذكر، أي التذكر طوعُ مشيئتكم فإن شئتم فتذكروا. والضمير الظاهر في ذكره} يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير {إِنه} وهو القرآن فيكون على الحذف والإِيصال وأصله: ذَكَر به. ويجوز أن يعود إلى الله تعالى وإن لم يتقدم لاسمه ذكر في هذه الآيات لأنه مستحضَر من المقام على نحو قوله: {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلاً} [المزمل: 19]. وضمير {شاء} راجع إلى (مَنْ)، أي من أراد أن يتذكر ذَكَر بالقرآن وهو مثل قوله آنفاً {لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} [المدثر: 37] وقوله في سورة المزمل (19) {فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلاً} وهو إنذار للناس بأن التذكر بالقرآن يحصلُ إذا شاؤوا التذكر به. والمشيئة تستدعي التأمل فيما يخلصهم من المؤاخذة على التقصير وهم لا عذر لهم في إهمال ذلك، وقد تقدم في سورة المزمل. وجملة {وما تذْكُرون إلاّ أن يشاء الله} معترضة في آخر الكلام لإِفادة تعلمهم بهذه الحقيقة، والواو اعتراضية. والمعنى: أن تذكُّر من شَاءوا أن يتذكروا لا يقع إلاّ مشروطاً بمشيئة الله أن يتذكروا، وقد تكرر هذا في القرآن تكرراً ينبه على أنه حقيقة واقعة كقوله: {وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله} [التكوير: 29] وقال هنا {كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره} فعلمنا أن للناس مشيئة هي مناط التكاليف الشرعية والجزاءِ في الدنيا والآخرة وهي المعبر عنها عند أهل التحقيق من المتكلمين بالكسب كما حققه الأشعري، وعند المعتزلة بالقدرة الحادثة، وهما عبارتان متقاربتان، وأن لله تعالى المشيئة العظمى التي لا يمانعها مانع ولا يقسرها قاسر، فإذا لم يتوجه تعلقها إلى إرادة أحد عباده لم يحصل له مراد. وهذه المشيئة هي المعبر عنها بالتوفيق إذا تعلقت بإقدار العبد على الداعية إلى الطاعة وامتثال الوصايا الربانية، وبالخِذلان إذا تعلقت بتركه في ضلاله الذي أوْبَقَتْهُ فيه آراؤه الضالة وشهواته الخبيثة الموبقة له في الإِعراض عن شرائع الله ودعوة رسله، وإذا تعلقت بانتشال العبد من أوْحَال الضلال وبإنارَة سبيل الخير لبصيرته سميت لُطفاً مثل تعلقها بإيمان عُمر بن الخطاب وصلاحه بعد أن كان في عناد، وهذا تأويل قوله تعالى: {فمن يُرد الله أن يهديه يشرح صدره للإِسلام ومن يُرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يَصَّعَّدُ في السماء} [الأنعام: 125]. هذا حاصل ما يتمخض من الجمع بين أدلة الشريعة المقتضية أن الأمر لله، والأدلةِ التي اقتضت المؤاخذة على الضلال، وتأويلُها الأكبرُ في قوله تعالى: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كلّ من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء: 78، 79] وَلله في خلقه سرّ جَعل بينهم وبين كنهه حجاباً، ورَمَزَ إليه بالوعد والوعيد ثواباً وعقاباً. وقرأ نافع ويعقوب {وما تذكُرون} بمثناة فوقية على الالتفات، وقرأه الجمهور بتحتية على الغيبة، فالمعنى أنهم يغلب عليهم الاستمرار على عدم الذكرى بهذه التذكرة إلاّ أن يشاء الله التوفيق لهم ويلطف بهم فيخلق انقلاباً في سجيّة من يشاء توفيقه واللطفَ به. وقد شاء الله ذلك فيمن آمنوا قبل نزول هذه الآية ومَن آمنوا بعد نزولها. جملة واقعة موقع التعليل لمضمون جملة {فمن شاء ذكره} تقويةً للتعريض بالترغيب في التذكر والتذكر يفضي إلى التقوى. فالمعنى: فعليكم بالتذكر واتقوا الله تعالى لأن الله هو أهل للتقوى. وتعريف جزأي الجملة في قوله: {هو أهل التقوى} يفيد قصر مستحق اتقاء العِبادِ إياه على الله تعالى وأن غيره لا يستحق أن يُتَّقى. ويتجنب غضبه كما قال: {والله أحق أن تخشاه} [الأحزاب: 37]. فإما أن يكون القصر قصراً إضافياً للرد على المشركين الذين يخشون غضب الأصنام ويطلبون رضاها أو يكون قصراً ادعائياً لتخصيصه تعالى بالتقوى الكاملة الحق وإلاّ فإن بعض التقوَى مأمور بها كتقوى حقوق ذوي الأرحام في قوله تعالى: {واتقوا الله الذي تسَّاءَلون به والأرحامَ} [النساء: 1] وقد يقال: إن ما ورد الأمر به من التقوى في الشريعة راجع إلى تقوى الله، وهذا من متممات القصر الادعائي. وأهل الشيء: مستحقه. وأصله: أنه ملازم الشيء وخاصته وقرابته وزوجُه ومنه {فأسرِ بأهلك} [هود: 81]. ومعنى {أهل المغفرة}: أن المغفرة من خصائصه وأنه حقيق بأن يَغفر لفرط رحمته وسعة كرمه وإحسامه ومنه بيت «الكشاف» في سورة المؤمنين: أَلا يَا ارْحَمُونِي يَا إله مُحَمَّد فإن لم أكُنْ أهْلاً فأنت له أهل وهذا تعريض بالتحريض للمشركين أن يقلعوا عن كفرهم بأن الله يغفر لهم ما أسلفوه قال تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38]، وبالتحريض للعصاة أن يقلعوا عن الذنوب قال تعالى {قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنَطُوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر: 53]. روى الترمذي عن سهيل عن ثابت عن أنس بن مالك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: قال الله تعالى: «أنا أهل أن أُتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له» قال الترمذي: حسن غريب، وسهيل ليس بالقوي، وقد انفرد بهذا الحديث عن ثابت. وأعيدت كلمة {أهل} في الجملة المعطوفة دون أن يقال: والمغفرة، للإِشارة إلى اختلاف المعنى بين أهل الأول وأهل الثاني على طريقة إعادة فعل وأطيعوا في قوله تعالى: {يا أيّها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} [النساء: 59].
{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)} افتتاح السورة بالقسم مؤذن بأن ما سيذكر بعده أمر مهم لتستشرف به نفس السامع كما تقدم في عدة مواضع من أقسام القرآن. وكونُ القَسَم بيوم القيامة براعةُ استهلال لأن غرض السورة وصف بيوم القيامة. وفيه أيضاً كون المقسَم به هو المقسَم على أحواله تنبيهاً على زيادة مكانته عند المُقسِم كقول أبي تمام: وثَنايَاك إِنَّها اِغرِيضُ *** ولَآَللٍ تُؤْمٌ وبَرْقٌ ومِيضُ كما تقدم عند قوله تعالى: {حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربياً} في سورة الزخرف (1 3). وصيغة لا أقسم} صيغة قسم، أدخل حرف النفي على فعل {أقسم} لقصد المبالغة في تحقيق حُرْمة المقسَم به بحيث يُوهِم للسامع أن المتكلم يهم أن يقسم به ثم يترك القسم مخافة الحنث بالمقسم به فيقول: لا أقسم به، أي ولا أقسم بأعزَّ منه عندي، وذلك كناية عن تأكيد القَسم وتقدم عند قوله تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم} في سورة الواقعة (75). وفيه محسن بديعي من قبيل ما يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم. وهذا لم نذكره فيما مضى ولم يذكره أحد. والقسم بيوم القيامة} باعتباره ظرفاً لما يجري فيه من عدل الله وإفاضة فضله وما يحضره من الملائكة والنفوس المباركة. وتقدم الكلام على {يوم القيامة} غير مرة منها قوله تعالى: {ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب} في سورة البقرة (85). وجواب القسم يؤخذ من قوله: {أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه} لأنه دليل الجواب إذ التقدير: لنجمعن عظام الإِنسان أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه. وفي «الكشاف» «قالوا إنه (أي لا أقسم) في الإِمام بغير ألف» وتبرأ منه بلفظ (قالوا) لأنه مخالف للموجود في المصاحف. وقد نسب إلى البزي عن ابن كثير أنه قرأ {لأقسم} الأول دون ألف وهي رواية عنه ذكرها الشيخ علي النوري في «غيث النفع» ولم يذكرها الشاطبي. واقتصر ابن عطية على نسبتها إلى ابن كثير دون تقييد، فتكون اللام لامَ قسم. والمشهور عن ابن كثير خلاف ذلك، وعطف قوله: {ولا أقسم} تأكيداً للجملة المعطوف عليها، وتعريف {النفس} تعريف الجنس، أي الأنفس اللوامة. والمراد نفوس المؤمنين. ووصفُ {اللوامة} مبالغة لأنها تُكثر لوم صاحبها على التقصير في التقوى والطاعة. وهذا اللوم هو المعبر عنه في الاصطلاح بالمحاسبة، ولومُها يكون بتفكيرها وحديثها النفسي. قال الحسن «ما يُرى المؤمن إلاّ يلوم نفسه على ما فات ويندم، يلوم نفسه على الشر لِم فعله وعلى الخير لم لا يستكثر منه» فهذه نفوس خيّرة حقيقة أن تشرف بالقَسَم بها وما كان يوم القيامة إلاّ لكرامتها. والمراد اللوامة في الدنيا لوماً تنشأ عنه التوبة والتقوى وليسَ المراد لوم الآخرة إذ {يقول يا ليتني قدمت لحياتي} [الفجر: 24]. ومناسبة القسم بها مع يوم القيامة أنها النفوس ذات الفوز في ذلك اليوم. وعن بعض المفسرين أن {لا أقسم} مراد منه عدم القسم ففسر النفس اللوامة بالتي تَلوم على فعل الخير. وقوله: {أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه} الخ دليل على جواب القسم إذ تقدير الجواب لنجمعن عظامكم ونبعثكم للحساب. وتعريف {الإِنسان} تعريف الجنس، ووقوعه في سياق الإِنكار الذي هو في معنى النفي يقتضي العموم، وهو عموم عرفي منظور فيه إلى غالب الناس يومئذٍ إذ كان المؤمنون قليلاً. فالمعنى: أيحسب الإِنسان الكافر. وجملة {أن لن نجمع عظامه} مركبة من حرف {أن} المفتوحة الهمزة المخففة النون التي هي أخت (إنّ) المكسورة. واسم {أن} ضمير شأن محذوف. والجملة الواقعة بعد {أنْ} خبر عن ضمير الشأن، فسيبويه يجعل {أن} مع اسمها وخبرها سادّة مسدّ مفعولي فعل الظن. والأخفش يَجعل {أن} مع جزئيها في مقام المفعول الأول (أي لأنه مصدر) ويقدِّر مفعولاً ثانياً. وذلك أن من خواص أفعال القلوب جواز دخول (أن) المفتوحة الهمزة بعدها فيستغني الفعل ب (أن) واسمها وخبرها عن مفعوليه. وجيء بحرف {لن} الدال على تأكيد النفي لحكاية اعتقاد المشركين استحالة جمع العظام بعد رمامها وتشتتها. قال القرطبي: نزلت في عدي بن ربيعة (الصواب ابن أبي ربيعة) قال للنبيء صلى الله عليه وسلم يا محمد حدِّثْني عن يوم القيامة فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عدي: لو عاينتُ ذلك اليوم لم أصدقْك أوَ يجمع الله العظام. فنزلت هذه الآية، ألا قلت: إن سبب النزول لا يخصص الإِنسان بهذا السائل. والعظام: كناية عن الجسد كله، وإنما خصت بالذكر لحكاية أقوالهم {من يُحيي العظام وهي رميم} [يس: 78] {أإذا كنا عظاماً ورفاتاً إنا لمبعوثون} [الإسراء: 49] {أإذَا كنا عظاماً نخرة} [النازعات: 11] فهم احتجوا باستحالة قبول العظام للإِعادة بعد البِلى، على أن استحالة إعادة اللحم والعصب والفؤاد بالأولى. فإثبات إعادة العظام اقتضى أن إعادة بقية الجسم مساوٍ لإِعادة العظم وفي ذلك كفاية من الاستدلال مع الإِيجاز. ثم إن كانت إعادة الخلق بجَمع أجزاء أجسامهم المتفرقة من ذراتتٍ الله أعلم بها، وهو أحد قولين لعلمائنا، ففعل {نجمع} محمول على حقيقته. وإن كان البعث بخلق أجسام أخرى على صور الأجسام الفانية سواء كان خلقاً مستأنفاً أو مبتدأ من أعجاب الأذناب على ما ورد في بعض الأخبار وهما قولان لعلمائنا. ففعل {نجمع} مستعار للخلق الذي هو على صورة الجسم الذي بلِيَ. ومناسبة استعارته مشاكلةُ أقوال المشركين التي أريد إبطالُها لتجنب الدخول معهم في تصوير كيفية البعث، ولذلك لا ترى في آيات القرآن إلاّ إجمالها ومِن ثَم اختلف علماء الإِسلام في كيفية إعادة الأجسام عند البعث. واختار إمام الحرمين التوقف، وآيات القرآن ورد فيها ما يصلح للأمرين. و {بَلَى} حرف إبطال للنفي الذي دل عليه {لن نجمع عظامه} فمعناه بل تجمع عظامه على اختلاف المحملين في معنى الجمع. و {قادرين} حال من الضمير في الفعل المحذوف بعد {بَلَى} الذي يدل عليه قوله: {أن لن نجمع،} أي بل نجمعها في حال قدرتنا على أن نُسوي بَنانه. ويجوز أن يكون {بلى} إبطالاً للنفيين: النفي الذي أفاده الاستفهام الإِنكاري من قوله {أيحسب الإِنسان} والنفي الذي في مفعول {يحسب}، وهو إبطال بزجر، أي بَل لِيحسِبْنا قادرين، لأن مفاد {أن لَنْ نجمع عظامه} أن لا نقدر على جمع عظامه فيكون {قادرين} مفعولاً ثانياً لِيَحْسِبْنَا المقدر، وعدل في متعلق {قادرين} عن أن يقال: قادرين على جمع عظامه إلى قادرين على أن نسوي بنانه لأنه أوفر معنى وأوفق بإرادة إجمال كيفية البعث والإِعادة. ولمراعاة هذه المعاني عُدل عن رفع: قادرون، بتقدير: نحن قادرون، فلم يقرأ بالرفع. والتسوية: تقويم الشيء وإتقان الخلْق قال تعالى: {ونفسسٍ وما سَواها} [الشمس: 7] وقال في هذه السورة: {فخَلَق فسوى} [القيامة: 38]. وأريد بالتسوية إعادة خلق البنان مقوَّمة متقنة، فالتسوية كناية عن الخلق لأنها تستلزمه فإنه ما سُوِّيَ إلاّ وقد أُعيد خلقه قال تعالى: {الذي خلق فسوى} [الأعلى: 2]. والبَنان: أصابع اليدين والرجلين أو أطرافُ تلك الأصابع. وهو اسم جمع بَنانَةٍ. وإذ كانت هي أصغر الأعضاء الواقعة في نهاية الجسد كانت تسويتها كناية عن تسوية جميع الجسد لظهور أن تسْوية أطراف الجسد تقتضي تسوية ما قبلها كما تقول: قَلعتْ الريح أوتادَ الخيمة كناية عن قلعها الخيمة كلَّها فإنه قد يكنَّى بأطراف الشيء عن جميعه. ومنه قولهم: لك هذا الشيء بأسره، أي مع الحبْل الذي يشد به، كناية عن جميع الشيء. وكذلك قولهم: هوَ لك برُمته، أي بحبله الذي يشد به.
{بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)} {بل} إضراب انتقالي إلى ذكر حال آخر من أحوال فجورهم، فموقع الجملة بعد {بل} بمنزلة الاستئناف الابتدائي للمناسبة بين معنى الجملتين، أي لمَّا دُعُوا إلى الإقلاع عن الإِشراك وما يستدعيه من الآثام وأنذروا بالعقاب عليه يوم القيامة كانوا مصممين على الاسترسال في الكفر. والفُجورُ: فعل السوء الشديد ويطلق على الكَذِب، ومنه وُصفت اليمين الكاذبة بالفاجرة، فيكون فجَر بمعنى كذب وزْناً ومعنًى، فيكون قاصراً ومتعدياً مثل فعل كَذَب مُخفف الذال. روي عن ابن عباس أنه قال: يعني الكافر يكذِّب بما أمامه. وعن ابن قتيبة: أن أعرابياً سأل عمر بن الخطاب أن يحمله على راحلة وشكا دبَر راحلته فاتَّهمه عمر فقال الأَعرابي: مَا مَسَّها من نَقَببٍ ولا دَبَر *** أقْسَمَ بالله أبو حفص عمرْ فاغفِرْ له اللهم إنْ كانَ فَجَرْ *** قال: يعني إن كان نسبني إلى الكذب. وقوله: {يريد الإِنسان} يجوز أن يكون إخباراً عما في نفوس أهل الشرك من محبة الاسترسال فيما هم عليه من الفسق والفجور. ويجوز أن يكون استفهاماً إنكارياً موافقاً لسياق ما قبله من قوله: {أيحسب الإِنسانُ أنْ لن نجمع عظامه} [القيامة: 3]. وأعيد لفظ {الإِنسان} إظهاراً في مقام الإِضمار لأن المقام لتقريعه والتعجيب من ضلاله. وكرر لفظ {الإِنسان} في هذه السورة خمسَ مرات لذلك، مع زيادة ما في تكرره في المرة الثانية والمرتين الرابعة والخامسة من خصوصية لتكون تلك الجمل الثلاث التي ورد ذكره فيها مستقلة بمفادها. واللام في قوله: {ليفجر} هي اللام التي يكثر وقوعها بعد مادتي الأمر والإِرادة نحو {وأمِرْتُ لأَعْدِلَ بينَكم} [الشورى: 15] {يُريد الله ليُبيِّنَ لكم} [النساء: 26] وقول كُثيِّر: أريد لأَنْسَى حُبَّها فكأنَّما *** تَمَثَّلُ لي ليلى بكُل مكان وينتصب الفعل بعدها ب (أنْ) مضمرة، لأنه أصل هذه اللام لام التعليل ولذلك قيل: هي لام التعليل وقيل: زائدة. وعن سيبويه أن الفعل الذي قبل هذه اللام مقدر بمصدر مرفوع على الابتداء وأن اللام وما بعدها خبره، أي إرادتهم للفجور. واتفقوا على أن لا مفعول للفعل الواقع بعدها، ولهذا الاستعمال الخاص بها. قال النحاس سماها بعضُ القُراء (لاَمَ أنْ). وتقدم الكلام عليها في مواضع منها عند قوله تعالى: {يُريد الله ليُبَيِّنَ لكم} في سورة النساء (26). وأمَام: أصله اسم للمكان الذي هو قُبالة من أضيف هو إليه وهو ضد خلْف، ويطلق مجازاً على الزمان المستقبل، قال ابن عباس: يكذب بيوم الحساب، وقال عبد الرحمان ابن زيد: يكذب بما أمامه سَفَط. وضمير أمامه} يجوز أن يعود إلى الإِنسان، أي في مستقبله، أي من عمره فيمضي قُدُماً راكباً رأسه لا يقلع عما هو فيه من الفجور فينكر البعث فلا يَزع نفسه عما لا يريد أن يزعها من الفجور. وإلى هذا المعنى نحا ابن عباس وأصحابه. ويجوز أن يكون {أمامه} أُطلق على اليوم المستقبل مجازاً وإلى هذا نحا ابن عَباس في رواية عنه وعبدُ الرحمان بن زيد، ويكون {يفجر} بمعنى يكذب، أي يَكذِب باليوم المستقبل.
{يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)} يجوز أن تكون هذه الجملة متصلة بالتي قبلها على أنها بدل اشتمال منها لأن إرادته الاسترسال على الفجور يشتمل على التهكم بيوم البعث أو على أنها بدل مطابق على تفسير {ليفجر أمَامه} [القيامة: 5] بالتكذيب بيوم البعث. ويجوز أن تكون مستأنفة للتعجيب من حال سؤالهم عن وقت يوم القيامة وهو سؤال استهزاء لاعتقادهم استحالَة وقوعه. و {أيان} اسم استفهام عن الزمان البعيد لأن أصلها: أن آن كذا، ولذلك جاء في بعض لغات العرب مضموم النون وإنما فتحوا النون في اللغة الفصحى لأنهم جعلوا الكلمة كلها ظرفاً فصارت {أيان} بمعنى (متَى). وتقدم عند قوله تعالى: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها} في الأعراف (187). فالمعنى أنهم يسألون تعيين وقت معروف مضبوط بعدِّ السِنين ونحوها، أو بما يتعين به عند السائلين من حدَث يحل معه هذا اليوم. فهو طلب تعيين أمد لحلول يوم يَقُوم فيه الناس.
{فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)} عُدل عن أن يجابوا بتعيين وقت ليوم القيامة إلى أن يهدَّدوا بأهواله، لأنهم لم يَكونوا جادِّين في سؤالهم فكان من مقتضى حالهم أن يُنذروا بما يقع من الأهوال عند حلول هذا اليوم مع تضمين تحقيق وقوعه فإن كلام القرآن إرشاد وهدْي ما يترك فُرصَة للهدي والإِرشاد إلاّ انتهزها، وهذا تهديد في ابتدائه جاء في صورة التعيين لوقت يوم القيامة إيهاماً بالجواب عن سؤالهم كأنه حملٌ لكلامهم على خلاف الاستهزاء على طريقة الأسلوب الحكيم. وفيه تعريض بالتوبيخ على أن فرطوا في التوقي من ذلك اليوم واشتغلوا بالسؤال عن وقته. وقريب منه ما روي أن رجلاً من المسلمين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم «متى الساعة؟ فقال له: مَاذا أعددت لها». فإن هذه الأحوال المذكورة في الآية مما يقع عند حلول الساعة وقيام القيامة فكان ذلك شيئاً من تعيين وقته بتعيين أشراطه. والفاء لتفريع الجواب عن السؤال. و {بَرِق} قرأه الجمهور بكسر الراء، ومعناه: دُهِش وبُهت، يقال: برِق يَبرَق فهو بَرِق من باب فرح فهو من أحوال الإِنسان. وإنما أسند في الآية إلى البصر على سبيل المجاز العقلي تنزيلاً له منزلة مكان البرق لأنه إذا بهت شخص بصره. كما أسند الأعشى البَرَق إلى الأعين في قوله: كذلك فافْعَلْ ما حييت إِذَا شتوا وأقدِمْ إذا ما أعينُ الناس تفرَق وقرأه نافع وأبو جعفر بفتح الراء من البريق بمعنى اللمعان، أي لَمَع البصر من شدة شخوصه، ومضارعه يبرُق بضم الراء. وإسناده إلى البصر حقيقة. ومآل معنى القراءتين واحد وهو الكناية عن الفزع والرعب كقوله تعالى: {واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا} [الأنبياء: 97]، فلا وجه لترجيح الطبري قراءة الجمهور على قراءة نافع وأبي جعفر، لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ولا من مقتضى التفسير. والتعريف في {البصر} للجنس المرادِ به الاستغراق، أي أبصار الناس كلهم من الشدة الحاصلة في ذلك الوقت على أنهم متفاوتون في الرعب الحاصل لهم على تفاوتهم فيما يُعرضون عليه من طرائققِ منازلهم. وخسوف القمر أريد به انطماس نوره انطماساً مستمراً بسبب تزلزله من مداره حول الأرض الدائرة حول الشمس بحيث لا ينعكس عليه نورها ولا يلوح للناس نيِّراً، وهو ما دل عليه قوله: {وجُمع الشمس والقمر،} فهذا خسوف ليس هو خسوفه المعتاد عندما تحُولُ الأرضُ بين القمر وبين مُسامتته الشمسَ. ومعنى جَمْع الشمس والقمر: التصاقُ القمر بالشمس فتلتهمه الشمس لأن القمر منفصل من الأرض التي هي من الأجرام الدائرة حول الشمس كالكواكب ويكون ذلك بسبب اختلال الجاذبية التي وضع الله عليها النظام الشمسي. و {إذا برق البصر} ظَرف متعلق ب {يقول الإِنسان}، وإنما قدم على عامله للاهتمام بالظرف لأنه المقصود من سياق مجاوبة قوله: {يسأل أيّان يوم القيامة} [القيامة: 6]. وطُوي التصريح بأن ذلك حلول يوم القيامة اكتفاء بذكر ما يدل عليه وهو قولهم {أين المَفر} فكأنه قيل: حَلَّ يومُ القيامة وحضرت أهوالُه يقول الإنسان يومئذٍ ثم تأكَّدَ بقوله {إلى ربك يومئذٍ المستقر}. و {يومئذٍ} ظرف متعلق ب {يقول} أيضاً، أي يومَ إذْ يبرق البصر ويخسف القمر ويُجمع الشمس والقمر، فتنوين (إذ) تنوين عِوض عن الجملة المحذوفة التي دَلت عليها الجملة التي أضيف إليها (إذ). وذُكر {يومئذٍ} مع أن قوله: {إذا بَرَقَ البصر} الخ مُغن عنه للاهتمام بذكر ذلك اليوم الذي كانوا ينكرون وقوعه ويستهزئون فيسألون عن وقته، وللتصريح بأن حصول هذه الأحوال الثلاثة في وقت واحد. و {الإِنسان}: هو المتحدَّث عنه من قوله: {أيحسب الإِنسان أن لن نجمع عظامه} [القيامة: 3]، أي يقول الإِنسان الكافر يومئذٍ: أي المفر. و {المَفَر}: بفتح الميم وفتح الفاء مصدر، والاستفهام مستعمل في التمني، أي ليت لي فراراً في مكان نجاة، ولكنه لا يستطيعه. و {أين} ظرف مكان. و {كلا} ردع وإبطال لما تضمنه {أين المفر} من الطمع في أن يجد للفرار سبيلاً. و {الوَزر}: المكان الذي يُلجأ إليه للتوقي من إصابة مكروه مثل الجبال والحصون. فيجوز أن يكون {كلاّ لا وَزَر} كلاماً مستأنفاً من جانب الله تعالى جواباً لمقالة الإِنسان، أي لا وزر لكَ، فينبغي الوقفُ على {المفر}. ويجوز أن يكون من تمام مقالة الإِنسان، أي يقول: أين المفر؟ ويجيب نفسه بإبطال طعمه فيقول {كَلاّ لا وزَر} أي لا وزر لي، وذلك بأن نظر في جهاته فلم يجد إلاّ النار كما ورد في الحديث، فيحسن أن يُوصل {أين المفر} بجملة {كلا لا وَزَر}. وأما قوله: {إلى ربك يومئذٍ المستقرّ} فهو كلام من جانب الله تعالى خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا بقرينة قوله: {يومئذٍ}، فهو اعتراض وإدْماج للتذكير بمُلك ذلك اليوم. وفي إضافة (رب) إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أنه ناصره يومئذٍ بالانتقام من الذين لم يقبلوا دعوته. و {المستقَرّ}: مصدر ميمي من استقَرّ، إذا قَرّ في المكان ولم ينتقل، والسين والتاء للمبالغة في الوصف. وتقديم المجرور لإِفادة الحصر، أي إلى ربك لا إلى ملجأ آخر. والمعنى: لا ملجأ يومئذٍ للإِنسان إلاّ منتهياً إلى ربك، وهذا كقوله تعالى: {وإلى الله المصير} [آل عمران: 28]. وجملة {يُنَبَّأ الإِنسانُ يومئذٍ بما قدّم وأخَّر} مستأنفة استئنافاً بيانياً أثارهُ قوله: {إلى ربك يومئذٍ المستقر}، أو بدل اشتمال من مضمون تلك الجملة، أي إلى الله مصيرهم وفي مصيرهم يُنبأون بما قدموا وما أخروا. وينبغي أن يكون المراد ب {الإِنسان} الكافر جرياً على سياق الآيات السابقة لأنه المقصود بالكلام وإن كان كل إنسان ينبأ يومئذٍ بما قدم وأخر من أهل الخير ومن أهل الشر قال تعالى: {يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء} الآية [آل عمران: 30]. واختلاف مقامات الكلام يمنع من حمل ما يقع فيها من الألفاظ على محمل واحد، فإن في القرآن فنوناً من التذكير لا تلزم طريقة واحدة. وهذا مما يغفل عن مراعاته بعض المفسرين في حملهم معاني الآيات المتقاربة المغزى على محامل متماثلة. وتنبئةُ الإِنسان بما قدّم وأخرّ كناية عن مجازاته على ما فعله: إن خيراً فخيرٌ وإن سُوءاً فسوءٌ، إذ يقال له: هذا جزاء الفعلة الفلانية فيعلم من ذلك فعلَته ويلقَى جزاءها، فكانَ الإِنباء من لوازم الجزاء قال تعالى: {قل بلى وربي لَتُبْعَثُنّ ثم لَتُنَبَّؤنَّ بما عَمِلتم} [التغابن: 7] ويحصل في ذلك الإِنباء تقريع وفضح لحاله. والمراد ب {ما قدم}: ما فَعَله وب {ما أخرّ}: ما تركه مما أُمر بفعله أو نهي عن فعله في الحالين فخالف ما كُلف به ومما علَّمه النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء: «فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت».
|